ما تفسير قوله تعالى: "وإذ قال موسى لقومه ياقوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم"؟

 Published On Mar 29, 2024

السؤال: بسم الله الرحمن الرحيم ..السلام عليكم ورحمة الله وبركاته...أود ان أسأل عن تفسير الآبة الكريمة حين يقول الله تبارك وتعالى" واذ قال موسى لقومه ياقوم انكم ظلمتم انفسكم بأتخاذكم العجل فتوبوا الى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم" لأنى واثناء تصفحى لبعض المواقع الاسلامية السنية منها والشيعية وجدت تفاسير كثيرة وحتى فى نفس الواحدة وتكاد تكون متضاربة..ومع كثرة البحث تزداد الحيرة.ارجو الرد

صادق



جاء في التفسير الكبير:
بيّنت الآية السابقة أن بني إسرائيل عصوا الله تعالى بينما كان يحسن إليهم، وهنا ذكر أن أئمة الكفر منهم كانوا يستحقون العقوبة لأن العفو التام عنهم على جريمة الشرك كان من شأنه أن يشجعهم على المعاصي.فقال: يا بني إسرائيل، لقد ظلمتم أنفسكم بالشرك ظلمًا عظيمًا، لذلك توبوا إلى بارئكم. ومعنى البارئ الخالق، ولكن هناك فرق بين الكلمتين. فبرأ يعني: خلق بدون عيب أو نقص. يقول الزمخشري:البارئ هو الذي خلق الخلق بريئًا من التفاوت(الكشاف). وقد أيده العلامة أبو حيان، وهو من كبار علماء النحو واللغة وتفسيره(البحر المحيط)من أرقى كتب التفاسير، وقال بأن هذا الاستدلال للزمخشري استدلال حسن ولطيف.
وقد استنبط الزمخشري هذا بناء على المعنى الأصلي للبرء وهو الخلو من العيب والنقص.
وقال صاحب اللسان أن الفرق بين الخلق والبرء أن الخلق يستخدم لكل مخلوق، أما البرء فيستخدم عمومًا لذوي الأرواح..تقول العرب: خلق الله السماوات والأرض، وبرأ الله النسمة. وكأن البرء يستعمل لإيجاد مخلوق أكمل وأرقى. وقد استخدم القرآن البرء لخلق المصائب(سورة الحديد:23).. وهذا الاستعمال بسبب المشاركة مع ذوي الأنفس والأرواح، وإلاَّ فلا يعني ذلك أن البرء يستعمل لغير ذوي الأرواح، يقول الله تعالى:[هو الله الخالق البارئ](الحشر:25). وقد جمعت الآية الصفتين، مما يدل على أن هناك فرقًا بين معناهما. فالله تعلى بارئ بمعنى أنه لا يخلق الخلق فقط، بل يخلقه مزودًا بأخلاق وقوى متطورة قابلة للازدهار.
فكلمة البارئ في قوله تعالى:[توبوا إلى بارئكم] إشارة لطيفة لدحض الشرك الذي وقعوا فيه. لقد نحت بنو إسرائيل صنمًا، والواضح أن الخالق أفضل من المخلوق، والناحت خير من المنحوت، والمصور أسمى من الصورة لأنه قادر على رسم مثلها بل أفضل منها. أيها الحمقى، تخرون ساجدين لما صنعتموه بأيديكم وهو جماد تافه ولا حياة فيه؛ ولكن الذي صنعكم بهذه الحياة صنعة كاملة فنسيتموه. إن الصانع أفضل من صنعته، وأنتم أعظم من الصنم الذي صنعتموه بأيديكم فلا يستحق عبادتكم، وأنا الذي صنعتكم، فكان الأولى بكم أن تلتفتوا إلي وتعبدوني وحدي ولا تقعوا في هذا الشرك القبيح.
فبقوله تعالى: [توبوا إلى بارئكم] ألقى الضوء على ضرورة التوبة وكذلك على حقيقة أن التوبة الحقيقية هي التي تكون إلى الله وحده. وهكذا حشد في ثلاث كلمات معاني تحتاج إلى كتاب، فكأنه أدخل البحر في إناء.
قوله تعالى:[فاقتلوا أنفسكم]..كما سبق في شرح الكلمات فإن القتل يعني القتل الظاهري، وكذلك الإعراض والمقاطعة. لقد ذهب المفسرين إلى أن القتل هو قتل أهواء النفس، ولكن يتبين من الكتاب المقدس أنه عوقب بعض أئمة الجريمة بالقتل. ولقد ذكر الله تعالى أمر العفو العام أولاً، ثم أتبعه بذكر شناعة هذه الفعلة من اليهود على وجه خاص، فيبدو من ذلك أن بعض الناس قد عوقبوا فعلاً بالقتل. تذكر التوراة في هذا الصدد قول موسى عليه السلام لبني لاوي: (هكذا قال الرب إله إسرائيل: ضعوا كل واحد سيفه على فخذه، ومروا وارجعوا من باب إلى باب في المحلة، واقتلوا كل واحد أخاه، وكل واحد صاحبه، وكل واحد قريبة، وفعل بنو لاوي بحسب قول موسى. ووقع من الشعب في ذلك اليوم نحو ثلاثة آلاف رجل )(خروج 27:32و28). ثم تقول التوراة إن موسى ابتهل إلى الله طالبًا الرحمة وقال: (آه، قد أخطأ هذا الشعب خطية عظيمة وصنعوا لأنفسهم آلهة من ذهب. والآن إن غفرت خطيتهم وإلاَّ فامحني من كتابك الذي كتبت)(خروج32:32). ثم ورد أن الله تعالى عفا عنهم كقوم، ولكن لم يعف عن أئمة المجرمين كأفراد، بل قال: سوف أحاسبهم يوم القيامة(المرجع السابق:34).
يظهر من عبارات التوراة هذه أن هؤلاء المجرمين عوقبوا بالقتل، ثم رفع الله تعالى العقوبة القومية عنهم رحمة لهم بسبب دعاء موسى، ولكن العقوبة يوم القيامة لكبار المجرمين لم تزل في انتظارهم.
هناك شيء من الاختلاف بين بيان الكتاب المقدس وبيان القرآن الكريم، فيرى هذا أن العفو القومي كان أولاً، ثم ذكر تنفيذ العقوبة على قادة الجريمة، أما التوراة فتقول إن تنفيذ العقاب على قادة المجرمين كان أولاً ثم صدر العفو القومي من الله تعالى. ولا نجد مصدرًا تاريخيًا يتناول هذا الحادث سواهما. ولكن رأينا عمومًا أن شهادة التاريخ عند توافرها في مناسبات الاختلاف الأخرى كانت دائمًا في جانب القرآن الكريم؛ ومن ثم نجد أن بيان القرآن هو الأولى بالقبول.
كما توجد هناك شهادة فطرية. فالعادة أنه عندما يرتكب فريق من الشعب جريمة قومية يثور ضدهم الآخرون، وإذا صدر عفو كان عفوًا عامًا، ثم يعاقب المحرضون وكبار المجرمين. وهذه الشهادة أيضًا في صف البيان القرآني. فعندما أخبرهم موسى بسخط الله تعالى على الجريمة ندموا، وعندما ابتهل موسى إلى الله طمأنه الله تعالى بأن شعبه لن يهلك جميعه ولكن أئمة الكفر يستحقون عقابًا لازمًا.
.....

show more

Share/Embed